الجمعة 22 نوفمبر 2024 06:43 صـ
مصر وناسها

    رئيس مجلس الإدارة محمد مجدي صالح

    غطاطي للإطارات
    المنوعات

    ”عمرو” يتحدى ظروفه زاحفا على الأرض لبيع كروت شحن بالقطار

    مصر وناسها

    في السابعة صباحا، ينهض "عمرو"من غفوته مبكرا على صوت آيات القرآن الكريم والتواشيح الدينية من المحلات المجاورة لبيته، يهرول، رغم صعوبة حركته، من سريره حتى باب غرفته قاطعًا خطوات متثاقلة ليبدأ يوما آخرا كصفحة جديدة من كتاب حياته يسطرها بصعوبة بما تبقى من أطراف جسده الذي يشي للناظرين إليه من الوهلة الأولى بظروف مٌعدمة يصارعها شاب في الثلاثين من عمره متحديًا إعاقته.

    زحفا على الأرض، بعد أن فقط قدميه وذراعه الأيسر، يغدو"عمرو" بجيوب خاوية، في بداية كل يوم، بحثًا عن رزقه بين عربات قطار الإسكندرية، ينادي بصوت مسموع على بضاعته: "كروت شحن فكة.. تجديد باقة..تحويل رصيد"، رافضًا التسول كما يلجأ الكثيرون في مثل ظروفه، حتى بات معروفًا بعزيمته وإرادته وسط ركاب القطار ينظرون إليه جميعا بعين الانبهار،"عمري ما أمد إيدي لحد أبدًا ومكسبي من اليوم بيكفيني أنا ووالدتي"، يقول الشاب السكندري في بداية حديثه لـ"الوطن".

    في 2008 سقط أسفل عجلات القطار وفقد ساقيه وذراعه الأيسر

    اثنى عشرة عاما، شكلت حياة "عمرو" من جديد، ملامح يومه من قبل تاريخ الثاني عشر من ديسمبر عام 2008 لم تتشابه مع حاله الآن، صافرة إنذار دخول القطار إلى محطة سيدي جابر علت في وضح النهار، إلا أن كلمة القدر كانت أعلى من صوتها، باغتته عجلات القطار الحادة فجأة، في لحظة توقفت عندها عقارب الساعة وسقط مغشيًا عليه، لم يعِ ما يحدث من حوله، حينها، صراخ نساء وأطفال وهرولة رجال يحاولون إنقاذ جسده الذي كاد أن يتآكل كله على القضبان،"حصلي بتر في القدمين فوق الركبة وبتر في الدراع الشمال تحت الكوع"، فتحول مشواره الذي ذهب إليه بعد انتهاء موعد ورديته كفرد أمن في أحد الفنادق الكبرى إلى كابوس لا تزال تفاصيله تلاحقه في أحلامه.

    بعد الحادث تلقى علاج نفسي طويل وبدأ العمل في بيع كروت الشحن

    شوط طويل من العلاج النفسي، قطعه الشاب السكندري الحاصل على دبلوم صنايع، في محاولة منه للتشبث بالحياة رغم مرارتها، قاوم وثابر ولم يجد أمامه عمل يناسب ظروفه الصحية سوى بيع كروت الشحن، فقد عمله في الفندق، حتى مهنة الجزارة التي يحترفها لم تعد تناسبه ولم يقوى هو الآخر على رؤية منظر الدماء مجددا،"بدأت ببيع كروت الشحن والحمد لله بقيت أبيع وأكسب"، وما إن تطورت الحياة من حوله وظهرت ماكينات الدفع الفوري سارع بشراء واحدة ليزيد ربحه بها.

    أصابع يده اليمنى هي سلاحه الوحيد الذي تبقى له من أسفل عجلات القطار، بها يضغط على أزرار ماكينة الدفع الفوري لزبائنه وبها يبيع كروت الشحن، يتوكأ عليها في سيره، لم تسمح له ظروفه المادية لتركيب أطراف صناعية تعينه على حياته، ينتقي الأوقات ليهرب من زحام الركاب،"مقدرش أشتغل في الزحمة هتبهدل وسط الناس"، سيرته الحسنة وأمانته معروفتان وسط الركاب لا يعود إلى بيته إلا وقد باع بضاعته كلها.

    على سريره يستلقي "عمرو" نهاية كل يوم بعد رحلة صعبة تفادى خلالها عثرات عدة في الطريق، راضيًا عن نفسه التي أبت الهزيمة، تراوده نوبات اليأس قليًلا فيطردها بالحمد على ما اكتسبه من رزق حلال، لم يحلم سوى بوظيفة ثابتة وأطراف صناعية تخفف عنه عبء السير والحركة.

    عمرو تحدي الظروف دون قدمين بتر البائعة المتجولين كروت شحن مصروناسها